لا يختلف حال السوري الذي فر هارباً من الموت، عن حال من بقي في سورية ليجرب حظوظه مع الحياة مرة أخرى في مواجهة آلة القتل اليومية. لا فرق أبداً بين كليهما فمن لم يظفر به الموت داخل سورية، أصبح ضحية الألم و هو خارجها يتحسر حاله و حال أهله.
و قد لا يصف حال الشاب السوري محمد اليوسف و هو يودع أفراد عائلته العشرين الذين قضوا في مجزرة خان شيخون من ملجأه في هولندا سوى قول الشاعر الراحل محمود درويش :” الموت لا يؤلم الموتى، الموت يؤلم الأحياء “.
محمد كركص لمجلة: طائرة للنظام من نوع سوخوي 22 تحمل اسم قدس 1
انطلقت من مطار الشعيرات في ريف حمص فجر يوم الثلاثاء 4 نيسان و
قصفت خان شيخون بأربعة صواريخ محملة بالغازات السامة، و قد رصدنا ذلك
من خلال المراصد في المناطق المحررة، و عبر أجهزة التنصت القريبة من المطارات.
” يربطني بعائلتي الموزعة بين خان شيخون و تركيا شاشة هاتف محمول و مجموعة واتس آب، نتشارك من خلالها أخبار العائلة و نتقاسم الأفراح و الأتراح “، يقول محمد.
لم يكن ابن العشرين ربيعاً يعلم عندما كان يوضب حقيبته المدرسية كعادته صباحاً بأنه على موعد مع الفراق، و أي فراق! عشرون شهيداً من عائلته في يوم واحد!.

يأخذ محمد نفساً عميقا، يتنهد بعمق و يكمل حديثه بأحرف يقطعها الألم: ” ليست المرة الأولى التي تقصف فيها بلدتي خان شيخون، كما ليست المرة الأولى التي تفقد عائلتي شهداء جراء القصف، لكن الكيماوي أزهق أرواح الكثيرين اختناقا.
حينما ورد الخبر صباحاً في مجموعة العائلة لم يكن هناك أي تفاصيل أو ذكر للغازات السامة، توجست قليلاً، تمنيت لهم السلامة و مشيت إلى المدرسة، و هناك بدأت الرسائل تتدفق لتخبر عن الفاجعة. أخبرت مدرستي و عدت إلى البيت لا حول لي ولا قوة سوى انتظار أخبار أخرى تحمل أسماء الشهداء و المصابين.
انشطرت عيناي بين القنوات الإخبارية و مجموعة العائلة فكلما وردت صورة لشهيد أو مصاب شعرت و كأنه خنجر مسموم بالألم يغرز في قلبي حتى الخامسة عصراً و حينها لم يعد يتسع القلب لمزيد من الطعنات”.

يصمت محمد لبرهة، يمسح دمعة انتصرت على جبروته و يتابع: ” لقد أدمى صدري ابن عمي عبد الحميد الذي فقد زوجته و أطفاله أثناء انشغاله بإنقاذ الآخرين. كان علي أن أبدي صلابة كي أتمكن من مواساته، لكنني فشلت في الصمود أمام هذا المصاب الجلل بما تحمل مخيلتي من صور أطفالنا الذين رحلوا نائمين! بالله ما ذنب الطفولة في هذه الحرب كي يدفعوا حياتهم التي بدأت للتو ثمناً لمصالح دولية تحمي المجرمين الذي يفتكون بالشعب السوري منذ ست سنوات بمختلف أنواع الأسلحة”.
لم يكن لمحمد من عزاء في غربته سوى مشاركته أشقائه السوريين في هولندا الذين تظاهروا في ساحة الفيستر ماركت في امستردام للتعبير عن مصابهم بجنازات رمزية للضحايا تحمل صور الأطفال الذين قضوا في المجزرة.
و ليس حال من شاهد المجزرة بأم عينيه بأسهل ممن كان يبكي أفراد عائلته في المهجر القسري.
من على بعد 25 كيلومترا عن خان شيخون يهرع الإعلامي محمد كركص إلى مكان المجزرة كي يخبر العالم بأسره بأنه مازال هنا شعب يموت لأنه أراد الحياة، و أن خطوط أمريكا الحمراء التي تسمح بمقتل المدنيين بكل أنواع الأسلحة ماعدا الكيماوي قد انتهكت أيضاً.
” لقد كانت أشبه بيوم الميعاد، أجساد ملقاة على الأرض تصارع الحياة ثم تتلفظ آخر الأنفاس، أباء يبحثون عن أبنائهم و أطفال تجاهد رئاتهم الصغيرة للبقاء لكن الكيماوي لا يرحم نعومة أعمارهم ” يروي محمد واصفاً المجزرة.
يخشى كركص من التوغل أكثر، و خصوصاً بعد إصابة أول فريق دفاع مدني دخل للمساعدة، فكل من يقترب حينها لاشك سيخر ساقطا و بعد ساعتين تمكن محمد من دخول الحي الأكثر إصابة برفقة فرق الدفاع المدني.
” شعرت بضيق نفس لكن مرأى طفلة شهيدة بجانب جثة أمها منعتني من التراجع ” يقول محمد و يتابع :” أخذت صوراً لأمهات يندبن صغارهن، لأبرياء لا يعلم أحد بأي ذنب قتلوا، لنيام سرق الموت أحلامهم. ثم ذهبت بعدها برفقة سيدة مصابة مع أطفالها إلى مشفى المعرة و بالطريق شعرت بدوار و نزلة برد حادة فتلقيت العلاج بالمشفى نفسها و عدت مساء إلى خان شيخون لتوثيق القصف الذي لم يكتف بالكيماوي صباحاً، بل أصر على تدمير المركز الطبي و مراكز الدفاع المدني لاحقاً كي لا ينجو أحد من المجزرة “.
يختتم محمد: ” لم أستطع النوم ليلتها، ليس لأنني خشيت أن لا أصحو مرة أخرى، إنما لأن دموع الأم التي فقدت طفليها بجانبي بالسيارة و ثالثهما في المشفى لم تفارق مخيلتي “.
حسن الخطيب
تصوير © Mwafaq Katt